فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآية صفات للذين اتقوا، أو صفات للذين يقولون، والظاهر الأول. وذكر هنا أصول فضائل صفات المتدينين: وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي. والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبث الثقة بين أفراد الأمة. والقنوت، وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية. والإنفاق وهو أصل إقامة أود الأمة بكفاية حاج المحتاجين، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس. وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل، والسحر سدس الليل الأخير؛ لأن العبادة فيد أشد إخلاصا، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته، فاختار له هؤلاء الصادقون آخر الليل لأنه وقت صفاء السرائر، والتجرد عن الشواغل.
وعطف الصفات في قوله: {الصَّابِرِينَ}، وما بعده: سواء كان قوله: {الصَّابِرِينَ} صفة ثانية، بعد قوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ}، أم كان ابتداء الصفات بعد البيان طريقة ثانية من طريقتي تعداد الصفات في الذكر في كلامهم، فيكون، بالعطف وبدونه، مثل تعدد الأخبار والأحوال؛ إذ ليست حروف العطف بمقصورة على تشريك الذوات. وفي الكشاف؛ أن في عطف الصفات نكتة زائدة على ذكرها بدون العطف وهي الإشارة إلى كمال الموصوف في كل صفة منها، وأحال تفصيله على ما تقدم له في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] مع أنه لم يبين هنالك شيئا من هذا، وسكت الكاتبون عن بيان ذلك هنا وهناك، وكلامه يقتضي أن الأصل عنده في تعدد الصفات والأخبار ترك العطف فلذلك يكون عطفها مؤذنا بمعنى خصوصي، يقصده البليغ، ولعل وجهه أن شأن حرف العطف أن يستغنى به عن تكرير العامل فيناسب المعمولات، وليس كذلك الصفات، فإذا عطفت فقد نزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة، وما ذلك إلا لقوة الموصوف في تلك الصفة، حتى كأن الواحد صار عددا، كقولهم واحد كألف، ولا أحسب لهذا الكلام تسليما. وقد تقدم عطف الصفات عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في سورة البقرة. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}.
التفسير: عن ابن عباس في رواية أبي صالح عنه قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر قالت يهود المدينة: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا ترد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه. ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى. فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا فقالوا: لا والله ما هو به. وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وكان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد. وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبًا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا: لتكونن كلمتنا واحدة. ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية. وقال محمد بن إسحق بن يسار في رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.
فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك أنك لقيت قومًا أغمارًا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة. أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله: {قل للذين كفروا} يعني اليهود {ستغلبون} تهزمون {وتحشرون إلى جهنم} في الآخرة.
ومعنى جهنم قد مر في البقرة في قوله: {فحسبه جهنم ولبئس المهاد} [البقرة: 206] وقيل: هم مشركو مكة {ستغلبون} يعني يوم بدر من قرأ بتاء الخطاب فمعناه الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر بأي لفظ أراد صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ بالياء فالأمر متوجه إلى حكاية هذا اللفظ أي قل لهم قولي لك: {سيغلبون}. وفي الآية حجاج للقائل بتكليف ما لا يطاق، فإنه تعالى أخبر عنهم بأنهم يحشرون إلى جهنم، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب الخبر كذبًا. وفيها دليل على صحة البعث والحشر بإخبار الصادق وفي قوله: {ستغلبون} وقد وقع كما أخبر إخبار عن الغيب فيكون معجزًا دإلا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. نظيره في حق عيسى عليه السلام {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} [آل عمران: 49] ثم أنه تعالى ذكر ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك الحكم فقال: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} يوم بدر {فئة} إحداهما جماعة {تقاتل في سبيل الله} وهم المسلمون لأنهم يقاتلون لنصرة دين الله وإعلاء كلمته {وفئة} أخرى {كافرة} هم كفار قريش. وبيان كون تلك الواقعة آية من وجوه: أحدها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور منها: قلة العدد والعدد، كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلًا مع كل أربع منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان.
ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا. ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها من أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حصل في المشركين أضداد هذه المعاني. كانوا تسعمائة وخمسين رجلًا وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، وأهل الخيل كلهم دارعون، وكان معهم دروع سوى ذلك، وكانوا قد مرنوا على الحرب والغارات. وإذا كان كذلك كانت غلبة المسلمين خارقة للعادة فكانت معجزة. وثانيها أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أخبر عن ذلك بإخبار الله في قوله تعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} [الأنفال: 7] يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان. وكان أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان والإخبار عن الغيب معجز. وثالثها إمداد الملائكة كما سيجيء في هذه السورة. ورابعها قوله: {يرونهم مثليهم} وفيه أربعة احتمالات لأن الضمير في يرون إما أن يعود إلى الفئة الكافرة أو إلى الفئة المسلمة، وعلى كلا التقديرين يجوز عود الضمير في {مثليهم} إلى كل منهما فهذه أربعة: الأول أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريبًا من ألفين. الثاني أنها رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفًا وعشرين، ودليل هذا الاحتمال قراءة من قرأ {ترونهم} بتاء الخطاب أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي أنفسهم. ودليل الاحتمالين جميعًا أن عود الضمير في يرون إلى الأقرب وهو الفئة الكافرة أولى، ولأنه سبحانه جعل هذه الحالة آية للكفار حيث خاطبهم بقوله: {قد كان لكم آية} فوجب أن يكون الراؤون هم الكفار حتى تكون حجة عليهم، ولو كانت الآية مما شاهدها المؤمنون لم يصلح جعلها حجة على الكفرة. والحكمة في ذلك أن يهابهم المشركون ويجبنوا عن قتالهم وهذا لا يناقض قوله في سورة الأنفال {ويقللكم في أعينهم} [الآية: 44] لاختلاف الوقتين فكأنهم قللوا أوّلًا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. على أن تقليلهم تارة في أعينهم وتكثيرهم أخرى أبلغ في القدرة وإظهار الآية. الاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون. فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين والسبب فيه ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] والكافرون كانوا قريبًا من ثلاثة أمثالهم، فلو رأوهم كما هم لجبنوا وضعفوا. الاحتمال الرابع أن يكون الراؤون هم المسلمين، ثم إنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين وهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة الكفار وإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين، والآية تنافي ذلك.
وفي الآية احتمال خامس وهو أن أول الآية قد بينا أنه خطاب مع اليهود فيكون المراد: ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة. وهاهنا بحث وهو أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيًا، والاحتمال الثالث يوجب أن يكون الموجود والحاضر غير مرئي. أما الأول فهو محال عقلًا والقول به سفسطة فلهذا قيل: لعل الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرًا. وعلى هذا تكون الرؤية البصر، ويكون {مثليهم} نصبًا على الحال، أو تحمل الرؤية على الظن والحسبان فإن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنه في غاية الكثرة، لكن قوله: {رأى العين} لا يجاوب ذلك إذ معناه رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات. وأما الثاني فهو جائز عند الأشاعرة إذ عند حصول الشرائط وصحة الحاسة لا يكون الإدراك واجب الحصول بل يكون عندهم جائزًا لا واجبًا والزمان زمان خوارق العادات. وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند استجماع الشروط وسلامة الحس، فاعتذروا عن ذلك بأن الإنسان عند الخوف لا يتفرغ للتأمل البالغ، فقد يرى البعض دون البعض. أو لعل الغبار صار مانعًا عن إدراك البعض، أو خلق الله تعالى في الهواء ما صار مانعًا عن رؤية ثلث العسكر، أو يحدث في عيونهم ما يستقل به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين وكل ذلك محتمل.
{والله يؤيد بنصره من يشاء} إما بالغلبة كيوم بدر، وإما بالحجة والعاقبة كيوم أحد.
{إن في ذلك} الذي ذكره من الآية: {لعبرة} نوع عبور وهو المجاوزة من منزل الجهل إلى مقام العلم {لأولي الأبصار} ذوي العقول التي تصير القضايا معها كالمشاهد المعاين. ثم ذكر ما هو كالشرح والبيان لمعتبر الإنسان وهو أنه {زين للناس} اللذات الجسمانية والآخرة. وهي عالم الروحانيات- خير وأبقى، وأنها معدة لمن واظب على العبودية واتصف بالخصال الحميدة. وأما ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه يمنعه من اتباعه حب المال والجاه. وروينا أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها، والآخرة خير. والمزين هو الله تعالى. أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملًا} [الكهف: 7] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها.
كان الصاحب بن عباد يقول: شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب. ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثوابًا.
وعن الجبائي واختاره القاضي، أن كل ما كان واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا فالتزيين فيه من الله تعالى، وكل ما كان حرامًا فالتزيين فيه من الشيطان. وحكي عن الحسن أنه قال: الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك. واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات، وإن تزيينها وظيفة الشيطان. وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده. وقال في معرض الذم {ذلك متاع الحياة الدنيا} والذام للشيء لا يكون مزينًا له. وقال: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم} والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزينًا لها؟. ثم أنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصًا على الاستمتاع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور قدرة وللمرجو رجاء. وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية. فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها. قال المتكلمون: في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايرًا للمضاف إليه. فالشهوة من فعل الله تعالى، والمحبة من أفعال العباد، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات. واعلم أن الإنسان قد يحب شيئًا ولكنه يحب أن لا يحبه، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام {إني أحببت حب الخير} [ص: 32] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محبًا للخير. فقوله: {حب الشهوات} قريب من ذلك لأن الشهوة نوع محبة. ولفظ {الناس} عام فظاهره يقتضي أن هذا المعنى عام لجميع الناس ولا شك أنه موجود في الأغلب وفي أكثر الأوقات فلا يبعد التعميم، فطالما أعطى للأغلب حكم الكل. على أن من همته بجوامعها مقصورة على طلب اللذات الروحانية في غاية الندرة، وبقاء ذلك النادر في جميع الأحيان على ذلك الخاطر أعز وأمنع.
ثم شرع في بيان تلك الأعيان المشتهيات فذكر منها ما هي الأمهات ورتبها في سبع مراتب: الأولى النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم {خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة} [الروم: 21] وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على متي النساء» الثانية الأولاد ولاسيما البنين ولهذا خصوا بالذكر، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات.
الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وأحكامه ومنه القنطرة. والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب. أبو عبيد: أنه وزن لا يحد.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية» وروى أنس عنه هو ألف دينار.
وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس: ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية. وبه قال الحسن. وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة.
وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار. والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم ألف مؤلفة وبدرة مبدّرة وإبل مؤبلة.
قال الكلبي: القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة. وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء.
وكل الصيد يوجد في الفرا ** ولولا التقى لقلت جلت قدرته

وصفة المالكية هي القدرة، وأنها صفة كمال والكمال محبوب لذاته. والخامسة الخيل المسوّمة قال الواحدي: الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط، وسميت الأفراس خيلًا لاختيالها وهو جولانها في مشيتها. ويسمى الخيال خيالًا لجولان هذه القوة في استحضار الصور. والمسومة قيل المرعية. أسمت الدابة وسوّمتها إذا أرسلتها في مرجها للرعي. ولا شك أنها إذا رعت ازدادت حسنًا وبهاء. وقيل: هي المعلمة من السومة العلامة. ثم اختلفوا في تلك العلامة فعن أبي مسلم: الغرة والتحجيل، وقال الأصم: هي البلق. وقال قتادة: الشية- وقيل: الكي. وقال مجاهد وعكرمة: المسومة المطهمة أي الحسان. قال الأصمعي: رجل مطهم وفرس مطهم وفرس مطهم أي تام، كل شيء على حدته فهو بارع الجمال. السادسة الأنعام وهو جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم. ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها. السابعة الحرث وهو الزراعة ذلك الذي ذكر متاع الحياة الدنيا لأن وجوه الانتفاعات الدنيوية للإنسان إما أن تكون من بني نوعه أو من غيره. والأول أصل وهو المرأة وفرع وهو الولد، وإنما فرض الكلام في الذكور لشرفهم. والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل، أو للحمل واللحم وهو الأنعام، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب، والقرآن يخاطب أولًا معهم.